دراسات إسلامية

 

 

التاريخ يعيد نفسه

بين سايكس – بيكو وبيرل – فيث

1916-2002م

 

بقلم : الأستاذ مصطفى محمد طحان

 

 

 

 

        التاريخ يعيد نفسه

     في الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام 1914 وانتهت معاركها عام 1918، ولملمت ذيولها عام 1923 في معاهدة لوزان، عندما أسدلت الستار على الوحدة الإسلامية فقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات وزعتهم على الدول الاستعمارية التي بدأت الحرب أساساً لتتقاسم المغانم، وأسقطت الخلافة، وأنهت الحكم الإسلامي واستبدلته بالعلمانية الغربية.

     وأثناء هذه الحرب الكونية وبينما كان جنرالات الحرب يخوضون معاركهم على الجبهات كان جنرالات السياسة يخططون مؤامراتهم في دهاليز لندن وباريس وموسكو، وكنتيجة لهذه المؤامرات اتفقت دول الغرب في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 على إسقاط الدولة الإسلامية وتقسيمها دويلات وزعوها فيما بينهم، ثم اصدرت هذه الأطراف عام 1917 ملحقاً مكملاً لمعاهدة سايكس بيكو بإعطاء فلسطين لليهود لإقامة وطن قومي لهم فيها.

     وعلى طريقة كيسنجر الذي شغل يوماً منصب وزير الخارجية الأمريكي وما زال واحدًا من مخططي السياسة الأمريكية يقول: المفاوضات عبارة عن حرب كلما ارتفعت وتيرتها كلما علت أصوات مدافعها.

     واليوم تعلو نغمة الحرب الأمريكية لإخضاع الشرق الأوسط وتقسيمه، جيوش تستعرض أرقى ما في مخازنها من أسلحة، وقواعد في الخليج وتركيا لاستقبال قوات الغزو، والتحالف الاستعماري الجديد، هو ذاته الحلف الاستعماري القديم مع بعض التعديلات التي فرضتها موازين القوة الجديدة.

     في الأول من (نوفمبر) 2002، دعا «ريتشارد بيرل» رئيس دائرة التخطيط السياسي في وزارة الدفاع الأمريكية، و«دوغلاس فيث» مساعد وزير الخارجية الأمريكية (وكلاهما يهودي أمريكي متحمس للصهيونية)، كبار العسكريين الأمريكيين إلى اجتماع مغلق للبحث في التطورات في الشرق الأوسط.

     خلال الاجتماع عرض «بيرل وفيث» على المؤتمرين لوحتين بيانيتين على شاشة عملاقة، لشرح أهداف الحرب الأمريكية على الإرهاب في الشرق الأوسط.

     اللوحة الأولى تضمنت الأضلاع الثلاثة الآتية مع توصيف خاص مرفق معها: الضلع الأول العراق، ووضع إلى جانبه تعبير (الهدف التكتيكي). الضلع الثاني منطقة الخليج، ووصفت بأنها (هدف استراتيجي). والضلع الثالث مصر وأرفقت بالتعبير (الجائزة الكبرى).

     واللوحة الثانية لم تقل إثارة عن اللوحة الأولى، وهي عبارة عن مثلث تضمن التوضيحات التالية: إسرائيل هي فلسطين، الأردن هو فلطسين، العراق هو المملكة الهاشمية.

     هذا الاجتماع الذي لم يهتم «بيرل وفيث» حتى بإبقاء مداولاته سرية، فسربت بعض المعلومات عنه إلى الصحافة الإسرائيلية، بدا أقرب إلى كونه مؤتمراً صهيونياً عالمياً منه إلى ندوة تخطيط داخلية أمريكية.

     لكن ماذا يريد «بيرل وفيث» بالتحديد؟

     هناك وثائق في غاية الخطورة تجيب على هذا السؤال:

     1 ترتيب الأحداث التي تعيد لإسرائيل المبادرة الاستراتيجية، وتوفر للأمة اليهودية المجال لاستخدام كل الطاقات من أجل بناء إسرائيل الكبرى. ويتمُّ ذلك.

     بالعمل بشكل وثيق مع تركيا والأردن لاحتواء وزعزعة كل الأنظمة التي لا تقبل هذا المخطط.

     تغيير العلاقات مع الفلسطينيين، بما في ذلك حق الملاحقة الساخنة في كل المناطق الفلسطينية والقضاء على فكرة الدولة الفلسطينية.

     إقامــة تعـاون استراتيجي أمــريكي إسرائيلي.

     2 وثيقة أخرى تقول بضرورة تدمير القومية العربية العلمانية التي كان يعتقد البعض أنها حاجز في وجه الأصولية الإسلامية؛ لكن النظر المتمعن في الأمر يؤكد أن تدمير القومية العربية يصب في مصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية والغرب(1).

بين الأمس واليوم

     لقد استطاعت الحرب العالمية الأولى بمؤامراتها ومعاهداتها أن تحقق الكثير من أهدافها، فقسمت العالم الإسلامي واستعمرته، وأقامت إسرائيل. وحطمت جميع البنى التحتية في بلاد المسلمين. التشريعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتركت المنطقة تسعى وراء لا هدف، وتهيمن عليها عصابات الفساد وانقلابات الدمار. وشعارات الخراب. بنت جيوشها التي لم تكن لها من مهمة إلا القمع وحراسة السجون للقوى الإسلامية الرافضة لهذا الاستعمار.

واليوم هل ستحقق الحرب المعلنة أهدافها؟

     بإقامة حلف استراتيجي بين أمريكا وإسرائيل والأردن وتركيا؟

     وهل تكون الحرب مع العراق مجرد خطوات تكتيكية تضرب هذا البلد وتخربه وتقسمه وتتركه قاعدةً أمريكيةً للوثوب منها إلى الأهداف الاستراتيجية في الخليج؟

     وهل ستكتمل هذه الخطوات بإنهاء دور مصر الريادي في المنطقة العربية. مصر التي وصفتها الوثيقة بأنها الجائزة الكبرى؟

     منطق الأمور يقول: إن «أمريكا» تستطيع بقوة الدفع الصهيونية التي تسيطر على مراكز القرار في واشنطن. أن تحقق مجمل طموحاتها؛ ولكن من المشكوك به كثيراً أن تنجح في الحفاظ طويلاً على ما حققته.

هذه نقطة

     ونقطة أخرى: فلربما احتاجت شعوبنا وقواها المذخورة مثل هذه الاستراتيجية العدوانية، لتنفض عنها روح الانهزام، والخوف من سدنة البطش والطغيان، وتبدأها معركة تحرر بها نفسها أولاً. وتثني بقوى الاحتلال بعدها.

     إن ازدراء أمريكا للآخرين، واستعراض عضلاتها، ورفضها التعرف على جذور الإرهاب ومعالجتها، وعدم اكتراثها الفاضح بالقانون الدولي، وانحيازها الأعمى لإسرائيل في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. كل ذلك تسبب في إفراز تيار شعبي عريض على كل الساحات العالمية: العالم الإسلامي، في أوروبا، في أمريكا اللاتينية، في أفريقيا. يعبَر عن نفسه تارةً على شكل أعمال عنف فردية. وتارةً بصورة سلمية في مقاطعة البضائع الأمريكية، أو في إحراق مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية. روافد متعددة تغذي تيار التمرد ضد الإمبريالية الجديدة.

     قبل أكثر من 60 عاماً، أطلق «هنري لوس» مؤسس مجلة (تايم)، واحدة من أشهر الدعوات المبشرة بهيمنة أمريكا على العالم.

     لكن لوس وهو يفعل ذلك، كان يدرك بأن مسعى قيادة العالم يتطلب ما هو أكثر بكثير من القوة العسكرية الطاحنة. وهكذا حثّ في مقاله (قرن أمريكا) مواطنيه الأمريكيين على إنفاق 10٪ على الأقل من كل دولار يخصص للأغراض العسكرية على الجهود الإنسانية في العالم. فبرأيه لكي تستطيع «أمريكا» أن تهيمن، عليها ألا تبدو أقوى فقط بل أفضل أيضاً. كما عليها أن تشاطر الآخرين قمرة القيادة.

     وها هي «أمريكا» تنفق الآن على موازنتها العسكرية أكثر مما تنفقه كل الدول الكبرى مجتمعةً (أكثر من 400 بليون دولار). ومع ذلك فلا تنفق دولاراً واحداً على الجهود الإنسانية.

     من يدري؟ هل تتسبب القوة المبطرة في سقوط طغاتها؟

     وهل يتسبب الظلم والقهر في انتصار شعوبها؟

     الفكر والعقل السليم يقبلان ذلك.

     أما النقطة الثالثة.. فهي رغبة «أمريكا» في السيطرة على العالم، ولقد ركزت الوثيقة الرسمية التي نشرها «البيت الأبيض» في 20/9/2002 عن الاستراتيجية الأمنية القومية للولايات المتحدة على الجمع بين محور الشر ومحور الإرهاب، وكانت الوثيقة في منتهى الوضوح عندما أوضحت أن مفهوم السلوك الأحادي الجانب، ليس فقط في مواجهة الأعداء، بل في مواجهة الأصدقاء كذلك. من هذا المنظور تحديدًا فإن النزعة الأحادية الجانب والمنفلتة من عقالها للإدارة البوشية تبدو، وكأنها موجهة بالدرجة الأولى نحو الحليف الأوروبي، فإن حليفاً مثل المستشار الألماني «شرودر»، أو الرئيس الفرنسي «شيراك» مرشح بسهولة لأن يغدو خصماً بقدر ما قد يصرّ على أن يتصرف كشريك لا تابع..

     «روبرت كاغان» أحد الخبراء الاستراتيجيين اليمينيين في الولايات المتحدة كتب في جريدة (ذي تسايت) الألمانية في 11/7/2002، بأن أوروبا أصبحت اليوم ضعيفةً؛ ولكنها لاتريد أن تعترف أو تتصور أن «أمريكا» غدت اليوم القوة العظمى في العالم. وقد آن الأوان لكي نتوقف عن الإدعاء بأن الأوروبيين والأمريكان يتقاسمون اليوم وجهة نظر مشتركة حول العالم، فثمة خلافات عميقة وسوف تستمر على الأرجح وبخاصة فيما يتصل بتنفيد السياسات الخارجية الدفاعية والقضايا القومية المصيرية.

     أما وزير الخارجية الألماني «يوشكا فيشر» فقد تحدث في جامعة «هوبند» في 12/6/2000 معتبراً أن جوهر مفهوم أوروبا بعد عام 1945 كان ولايزال يقوم على رفض مبدأ ميزان القوى وطموحات الهيمنة التي برزت غداة معاهدة سلام وستفاليا لعام 1648، وأن الاتحاد الأوروبي نفسه هو حصيلة هذا الرفض. أما «رومانو برودي» رئيس المفوضية الأوروبية فقال في باريس يوم 19/5/2001 بأن (القانون حلّ في أوروبا محل عروض القوة وفقدت سياسات القوة بذلك نفوذها، وينجاحاتنا في الوحدة نظهر للعالم أن من الممكن إقامة عالم مسالم)(2).

     وإذا كانت هذه هي نظرة أمريكا للاتحاد الأوروبي.. فكيف ستكون نظرتها تجاه روسيا والصين واليابان وغيرها؟

     هل نستطيع القول أن غرور «أمريكا» سيدمرها؟!

     وأن الدول الكبرى بدأت تتحسس خطورة المرحلة، وترفض التسليم بسيطرة الولايات المتحدة على كل موارد الكرة الأرضية، وتحكمها بالعالم.

*  *  *

الهوامش:

مجلة الوسط – العدد 566 (2/12/2002).

الحياة اللبنانية – صالح بشير (24/11/2002).

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36